الجمعة، 5 يوليو 2024

دفاعاً عن الماسونية- ريبر هبون


دفاعاً عن الماسونية
*ريبر هبون
من يحاول فهم الماسونية والبحث عن حقيقتها لابد في البداية أن يتعثر بالكم الهائل من المغلوط والمضلل بخصوصها من هؤلاء الذين يشيطنونها وينسجون حولها القصص، الأساطير والخزعبلات المثيرة للضحك، ولطالما حاولت كشخص البحث عن حقيقتها بموضوعية حتى اهتديت مصادفة لكتابين وهما : "الحقائق الأصلية في تاريخ الماسونية العملية للكاتب شاهين مكاريوس" والكتاب الآخر بعنوان: " تاريخ الماسونية العام للكاتب جرجي زيدان" وقد قرأتهما بتأنٍ واستخلصت منهما بعض الحقائق والاستنتاجات، سأحاول على ضوء ما توصلت إليه أن أقدم تعريفاً للماسونية: " منظمةُ أخوية، سرية، خيرية، تعليمية بدأت بصورة عملية ، فراحت تشيد المعابد، الكنائس والأبنية الشاهقة بعد أن تم استقدام بنائيها لهذا الغرض،تدرجت في العهد المعاصر لتصبح رمزية ينضم إليها غير البنائين من رجال أعمال، كتّاب وفنانين ، حيث تتكون من محافل مستقلة عن بعضها بعضاً، ومراتبها 33 يتدرج من خلالها الماسوني رتبة رتبة ، ينشد الماسون للعدل، الإخاء، الحرية والمساواة وغايتها شريفة ولا تعنى بالسياسة ومشكلاتها ولا تجادل في الأديان والطوائف، حيث تتخذ لذاتها مساراً خاصاً بها وقد بدأت منذ 715 قبل الميلاد لغاية اليوم، أما بروز الماسونية الحديثة فبدأ في بريطانيا عام 1717م."
من خلال هذا التعريف كان ولابد من أن أبين لقارئ اليوم بعضاً من الحقائق التي تؤكد عظمة سير هذه الجماعة المنظمة تنظيماً دقيقاً ولعل سريتها وتنظيمها الدقيق كان وراء تعرضها للاضطهاد والملاحقة عبر العصور، سأبين هنا وفقاً للكاتب الماسوني جرجي زيدان حيث ذكر أقسام الماسونية ص25: "يقسم تاريخ الماسونية العامة إلى قسمين: قديم وحديث، أو ماسونية عملية أو حقيقية وماسونية رمزية.
وتاريخ الماسونية القديمة أو الماسونية العملية على طورين:
الطور الأول: الماسونية العملية المحضة من سنة 715 قبل الميلاد إلى سنة 1000 بعده.
الطور الثاني: الماسونية المشتركة: من سنة 1000 إلى سنة 1717 بعد الميلاد.
تاريخ الماسونية الحديث أو الماسونية الرمزية على طورين:
الطور الأول : من سنة 1717 -1783
الطور الثاني: من سنة 1783 ولايزال."
لقد ساندت الماسونية المسيحية في روما وتعرضوا إثر ذلك لموجات متلاحقة من العنف وبنوا المعاقل في الشرق ، في أنحاء فارس ، بلاد العرب وسوريا وكذلك بنوا المساجد في العهد الإسلامي، ذلك يؤكد حضورها في فترات مهمة من التاريخ، سأنظر هنا في باب القيم التي تحلق الماسون حولها منذ القديم ، المتعلقة بقيمة الإخلاص في احترام الله، القيمة التالية المتعلقة بالنفع للمحيط، وكتم الأسرار عمن هم من غير الماسون، والمواظبة على حضور الاجتماعات، ما لفتني في الكتاب هو علاقة بعض رجالات السلطة الإسلامية بالماسونية ومثالاً تلك العلاقة ما بين ريكاردس قلب الأسد والكوردي صلاح الدين الأيوبي: ص51
"ويستلمح من الحادثة المشهورة التي حصلت بين هذا البطل والسلطان صلاح الدين الأيوبي أثناء الحروب الصليبية في سوريا أن هذا الأخير كان على شيء من الماسونية، لأن المعاملة التي عاملها السلطان صلاح الدين لريكاردس كونه من أعداء وطنه ودينه لا يمكن أن تحدث إلا عن ارتباط داخلي أشد متانة من رابطة الوطنية ألا وهي رابطة الأخوية الماسونية والله أعلم."
-نظرة في الوصايا الماسونية:
سألخص قبل ختام مقالتي هذه، تلك الوصايا ، قديمها وجديدها والتي قد تبدو ناجعة مؤثرة وعلى درجة من الأهمية بمكان أن تساعد المرء في حياته وتجعله ينشد الطمأنينة والعدل ويضمرها في ذاته لتغدو من صميم معاملته ونظرته للحياة، النظرة لله كونه وعاء الحكمة الأزلية وعن مجاورة الحكمة والحكماء وتجنب الوقوع في الرذائل وعدم الأذى كون المرء لا يسمح له أن يقع ضحية أذى الغير له، إلى جانب التعامل الطيب مع الوالدين وكبار السن وحماية الأطفال وحب العائلة، وتجنب احتقار الآخرين ، اجتناب الشهوة والعبودية لها وطلب المعرفة، أما الوصايا الحديثة فهي تتعلق بالعدل ، الكرم، الرحمة،الصبر، المعروف، التواضع، التسامح،الخير، القناعة، لجم الشهوات، العفة، الإخلاص للوطن، طاعة السلطة الآمرة، الدفاع عن البلد، وإن تعرض المرء للإجحاف من بلده وأهل بلده والسلطة التي تحكمه فلا أفضل من أن يقابل المرء ذلك بالكثير من الصبر.
حيث ينص الدستور الماسوني على تقديم العبادة والإكرام لله مدبر الكائنات ومبدع الموجودات وحب الأقرباء وعدم فعل الشر وعمل الخير والالتزام بقواعد الدين واحترام ديانة الآخرين، عدم التملق وعدم الاكتراث للمديح المقدم فإنه يفسد الأخلاق واتباع نداء الضمير ومساعدة الفقراء والمحتاجين والتحلي باللين والعطف لا القسوة فالقسوة تجلب اللعنات، كذلك تجنب الشجار والشتائم وإكرام المرأة وإحسان المعاملة وكذلك النظر في المنصب إنه إما أن يزيدك شرفاً أو يلحق بك عاراً ،هذا متوقف على طبيعة السلوك الصادر عن ذلك الشخص ذوي المنصب، كذلك يدعو الدستور الماسوني إلى استقبال المعارف والتدبر والتفكر والعمل، فالأفعال العادلة تبعث على السرور بعكس الشريرة الباعثة على الغيظ ، احترام السلطة والحكومة والخضوع للشرائع واجبة على الفرد الماسوني وتجنب المجادلات في أمر الدين والسياسة للحفاظ على العلاقات ومساعدة الأخ وكتمان سره كتمانك لسرك، والفضيلة هو أساس كل فعل حسن يصبح المرء من وراءه قدوة للناس أجمع وهنا أصل لختام ما استخلصته في رحلة قراءتي لهذين الكتابين.
المصادر والمراجع:
-كتاب الحقائق الأصلية في تاريخ الماسونية العملية- تأليف: شاهين مكاريوس- مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.
- كتاب تاريخ الماسونية العام- تأليف: جرجي زيدان- مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة

السبت، 29 يونيو 2024

مقدمة كتاب نقد السياسة الكوردية- غربي كوردستان أولا- ريبر هبون

مقدمة كتاب نقد السياسة الكوردية –غربي كوردستان أولاً
*ريبر هبون
إن هذا الكتاب ، نقد السياسة الكوردية (غربي كوردستان أولاً) امتداد طبيعي للأساس الذي قمت بتشييده وأعني به كتابي الفكري البكر (الحب وجود والوجود معرفة) ومن نقد وتعرية الذهنية الشمولية والإسلام السياسي وحقبة الربيع العربي وبعث الإنسان المعرفي، وحديثي عن الأنظمة والأحزاب الشمولية بشقيها المؤيد لتلك الأنظمة والمعارضة لها على ضوء الشرق الأوسط وكوردستان كان بمثابة تأكيد مستمر على ذلك التحلق حول إحياء الجثة المتفسخة غير القابلة للتحنيط وإعادة الإحياء وقد رأيت من الأهمية بمكان كتابة هذا الطرح أو الرؤية لتكون البديل لا أن أكتفي كما يفعل الكثير بالإدانة والشجب والتشخيص والشكوى تاركاً ذلك الفراغ المرعب يلف الأطلال، فلاشك أن الكثيرين يعرفون طبيعة تلك المشكلات ومصادرها ويبحثون عن علاج لتلك العلل أي لبدائل وإلا لن يغدو الحديث عن المشكلات إلا ضرباً من ضروب الثرثرة والحذلقة والدوران في حلقة فارغة كمن يبيع الماء في حالة السقائين، هكذا يفعل مريدو أحزابنا عندما يؤلفون الكتب ويكون محتوى تلك الكتب الطعن والتشويه وممارسة الكراهية للطرف الخصم لغاية فحواها التملق والتكسب،  فقد غدا الوطن عبارة عن طلل وقفار بسبب تلك الذهنية وكذلك هجرة العقول والشباب عامة من تلك البلاد بعد أن حاولوا باستماتة البقاء أو إحداث تغيير  دون جدوى ، ففي كتاب الحب وجود والوجود معرفة ركزت أكثر على الإنسان العاقل وضرورة أن يمارس ريادته في الوجود مستفيداً من تطورات العصر وكثرة وسائل الاتصال بالناس والتواصل مع الآخرين دون الحاجة للمرور من قنوات الأحزاب ورجال السلطة ، لكن هذا الكتاب مخصص لزاوية ارتأيت من خلالها على الانفتاح على الواقع الكوردي في غربي كوردستان رأيت في ذلك نجاعة وصوابية، من تقديم الرؤية العامة التي قد لا تصل للكثيرين، فهم يحتاجون من يضع الضماد فوق الجرح مباشرة دون الدوران حول الجرح بلا حقنه أو معالجته.
كتابي نقد السياسة الكوردية منفتح فكرياً على واقع غربي كوردستان ويقدم رؤيتي وطريقة فهمي للمعضلات القائمة وسبل علاجها، هذا الجزء المتمايز عن الأجزاء الأخرى والذي قدم طاقته البشرية الشابة لجنوبي وشمالي كوردستان انطلاقاً من حسها القومي العالي حيث لم يقابل ذلك الفضل بالكثير الذي قد يذكر من قبل قيادات وأقطاب الحركة الكوردية في ذلك الجزأين إنما ظلوا يتعاملون مع ذلك الجزء كملحق أو كحديقة خلفية أو مستودع للخدمات اللوجستية، فنرى الإنسان الروجآفائي قد فقد إحساسة بواقعه لتماهيه الكلي أو شبه الكلي بواقع الجزئين الجنوبي والشمالي من كوردستان فنجده مصاب بعقدة الدونية والانشغال الدائم بأن يلقى رضا واستحسان الجنوب فيطعم لهجته بألفاظ بهدينانية كما يفعل ذلك الميال للطرف الآخر فيتحدث لهجة كورد الشمال مطعماً إياها بمفردات تركية، لقد تقاسم الشعب حالة الولاء الأعمى حد التصوف وتماهى بسياسة الحزبين الديمقراطي والعمال الكوردستاني حداً فقد فيه الإحساس بواقعه وخصوصية الجزء الذي ينتمي إليه، فباتت تلك الساحة لتصفية الحسابات الحزبية وظلت مفرخة الإنشقاقات ولاّدة بالمزيد المزيد من الأحزاب والمشهد يعج بالضبابية والانفصام يوماً بعد يوم.
مما لاشك فيه فإن القومية حالة روحية لابد من وجودها فكما أن العربي يحلم بالوحدة العربية وذلك حلم مشروع إلا ان واقعه واقع قطري بحت حيث فشل البعث بشقيه السوري والعراقي بتحقيق شيء مما يناديه نظرياً بل بات خير وسيلة للبقاء على الكرسي فوق جماجم الشعب، ولن يتم جني كوردستان موحدة نتيجة واقع جيواستراتيجي تاريخي تم تثبيته بشكل يجعل وجود كوردستان موحدة بأجزائها الأربعة ضرباً من الوهم العقيم، لهذا الإبقاء على الحلم ضرورة وفهم خصوصية كل جزء عن الآخر ضرورة قصوى، بحيث على كل جزء من كوردستان العمل على بناء الاقليم الذي ألحق بالدولة حسب سايكس بيكو وإقامة شراكة جيدة بحدها الأدنى مع تلك الدولة دون أن تهدد سيادتها أو سيادة الجوار وتكون السياسة الكوردية متزنة واقعية دون أن تختلط  بالأحلام والآمال المعسولة، حيث لن ترى عربياً دمشقياً يبكي على الخرطوم ودمشق أمامه تحترق مثلاً ، إذ أن الانتماء الاقليمي أو القطري أقرب للمرء من الانتماء القومي العام، وعندما يهب حريق في منزلك ومنزل جارك وفي المنزل أطفالك فإنك أولاً تسارع بإنقاذ الأطفال من ثم منزلك وبعد ذلك إن تمكنت من إنقاذ الاثنين تهرع لمساعدة وإطفاء حريق منزل جارك كيلا يعود الحريق لمنزلك مجدداً، هكذا يمكن فهم خصوصية كل جزء من كوردستان وضرورة أن يهتم كل مواطن بجزئه دون نفي التعاطف أو المساعدة للجزء الآخر إن اقتضت الضرورة، فلا مزيد من القرابين لأجل كرمى عيون التناقضات الحزبية العقيمة، فكان من الأهمية أن أقوم بطرح هذا الإشكال للقارئ والأجيال القادمة لمحاولة إعادة الذاكرة لفاقد الذاكرة فلا مزيد من الخسائر بعد أن تم إخراج عفرين سري كانيه وكرى سبي من خارطة غربي كوردستان، وما يزال حال الأقطاب المتناحرة ضرب بعضها البعض دون تفكير بالغد والشعب ولقمته وضياع أبنائه.
هذا الكتاب يؤكد على الاقليمية كنزعة  سياسية واقعية لا تتعارض مع الحلم القومي العام بكوردستان واحدة موحدة ولا تقف بالضد من حق تقرير المصير المشروع وإنما الاقليمية منبثقة من فهم ملي للحاضر وتجارب الماضي وكذلك المستقبل غير المنظور. 
ولا أنحاز هنا كما يفعل البعض لأحد المشاريع الحزبية ليصب انحيازي في خانة الجهة التي أنحاز إليها ضد الجهة الخصم فلا أنوي الغرق في مستنقع الاصطفاف الحزبي الذي يعد طقساً قبلياً جاهلياً كان وراء غياب الفكر القومي أو التنظير له كون الحزب بات الوثن والغاية والوطن بذاته بدل أن يكون الوسيلة لصيانة روح الأمة ونهضتها. 
ولم أبين مثالاً تأييدي أو رفضي الكاملين في هذا الكتاب إنما غايتي أن يقرأوه الجميع ويلمسوا الموضوعية فيه ما أمكن كوثيقة تؤكد ولائي المطلق لجغرافية غربي كوردستان التي أنتمي إليها وأراها قلب الكردياتية النابض كما اعتاد القوميون العرب نعت سورية بقلب العروبة. 
أملي أن ألملم المتناثر بفعل تصدع الحركة السياسية الكردية وأوجه البوصلة باتجاه الوطن الذي تركناه خلفنا وصرنا نبكي أو نتباكى عليه.
سألجأ للنقد الحذر حتى تصل الفكرة فليس العبرة تجريح الأفراد أو الشخصيات أو الأحزاب وإنما العبرة الأكيدة تكمن في وضع النقاط على الحروف فالكثير يتعامل مع النقد من منطلق شخصي ويثير الزوبعة لمجرد تفسير يعكس نية الشخص الذي يرغب في الانشغال بالبردعة تاركاً الحمار. 
حينما سأضع أمثلة فإني سأشخص الحدث ليكون مثالاً وحجة لفكرتي اذ ليست الغاية تشهير أحد 
تجنبي يدخل في باب الحرص على حيوية الكتاب وطريقة ولوجه لداخل المتلقي بل وإشراكه في النقاش لتغدو الكلمة جسراً بيني وبينه ولكل مجتهد نصيب ولعلي سأسعد لمجرد أني قد حاولت ولندع النتائج تتحدث بعد ذلك.

الخميس، 20 يونيو 2024

الرواية القصيرة دروب من جمر لخورشيد شوزي أنموذجا- ريبر هبون

الرواية القصيرة (دروب من جمر لخورشيد شوزي –أنموذجاً)
*ريبر هبون
تمهيد:
اعتمد الكاتب على تقنية السرد المكثف والانتقال المكاني المتسارع إلى جانب خلقه لمساحات الحوار بين الرجل والمرأة، هكذا جعل روايته نشطة وحيوية، والشخوص بداخلها رشيقو الظل،السرد فيها متمايز بقلقه وإثارته لأسئلة وجودية فلسفية وقضايا شتى ، الرواية من القطع المتوسط صدرت عن دار النخبة المصرية ، عدد صفحاتها 130، وواضح من كلمة دروب أنه ركز على البعد المكاني ، رحلة الفرار، فرار اللاجئ من بلده المحترب ، وفرار المغترب نفسياً عن اغترابه، حيث بدأت الرواية  من خلال مصادفة جمعت رجلاً وامرأة، ص9 : " شاب أنيقٌ ووسيم يروح ويجيء خلف المرأة بخطوات صغيرة، ويستقر فجأة بجانبها من حقيبته الصغيرة:
-ثوبك جميل
-شكراً معطفك أنيق
-شكراً آمل أن تصل الطائرة في الوقت المناسب.
- الطائرة وصلت قبل ربع ساعة، ألم تر اللوحة الالكترونية هناك؟"
مستويات الحوار هنا رشيقة تواكب وصف الملامح النفسية والجسدية لتضفي على المشهد إثارة معينة وهذه نقطة تحسب لصالح الرواية ، عندما تخوض في  غرابة أطوار الشابين وانسجامهما الجسدي وتنافرهما السلوكي، من الواضح أن الحوار غلب على السرد في الرواية إجمالاً ، ميل الكاتب للثنائيات، جمالياً ممتع، فنياً له دلالاته التي تشير إلى إهتمام الكاتب بالتفاصيل ومحاولة فهم نفسية المرأة، مزاجها ، وميول الجنسين لبعضهما ومحاولتهما أن يلفتوا أنظار بعضهما بعضاً، ليديا ومارك يخوضان الكثير من المواقف والمسائل معاً وهما بالقرب من بعضيهما وعلى متن الطائرة، وظفهما الكاتب لطرق جملة من المعلومات والمسائل لاسيما تلك المتعلقة بطبيعة عمل مارك، ورغبته في النقاش وإقناع ليديا في بعض الأشياء المتعلقة بإضطرار اللاجئين للفرار من بلادهم.
لقد اختار الكاتب خورشيد شوزي هذا النمط من الكتابة التي تتوسط القصة والراوية أي ما نعدها بالرواية القصيرة حسب المتفق عليه اصطلاحاً  متداولاً تبعاً للموضوع الذي استعرضه، عرض المتقابلات ما بين عدة حيوات لعدة شخوص يختلفون في الجغرافيا والرؤيا ونمط الحياة حيث اختار لكل منهم درباً من جمر.
تميزت الراوية بالحوارات الكثيرة والسرد الرشيق البعيد عن الرتابة، حيث يتخلل الحوار الرغبة، المنطق والتصارع فيهما بينهما وكذلك الولوج للكنه، الابتعاد عن السطحية، حيث أجاد الكاتب استنطاق مرح الأنثى ورغبة الشباب المتقدة في عيش اللحظات الحميمة ما بين طلبها أو الترفع عنها، لم يك ثمة من بطل رئيسي في الرواية وإنما أبطال ولم تك ثمة من مركزية تلتف حولها الرواية بأسرها وإنما كانت ثمة ثنائيات تتحدث، كذلك احتراف تصوير اللقطات الحميمة وهذا يجعل الرواية تمد فرعها باتجاه الرومانسي الذي يسبر الأغوار في الامتزاج الغرائزي بين الجنسين ص43 : "يقوم كل منهما بتغيير  ملابس الحفل ويدخل مارك عرفة ليديا ليجدها لابسة بيجاما أنيقة حمراء اللون ضيقة على مقاس جسمها الرقيق، لتظهر بعضاً من مفاتن مؤخرتها المكورة الصغيرة ونهديها بارزي الحلمتين تحت القميص الرقيق وشعرها المنسدل على كتفيها بطياته الذهبية الممتزجة بضوء المصباح في لمعانه."
الرواية القصيرة بإمكانها مجاراة طبيعة العصر الذي نعيشه ، عصر يتسم بالسرعة والاختصار والاقتصاد اللغوي، حيث بات المتلقي أو القارئ ميالاً فيه للكتب القصيرة التي تحوي الزبدة بعيداً عن الحشو، التكرار واللغة الغامضة المعقدة ، بات القارئ يبحث عن المقتضب والمملوء بمادة معرفية لا تخلو من الإثارة والتحفيز، وإلى ذلك فليتنافس المبدعون ،سيان في أي مجال أو في أي فرع فيه يبدعون.
هنا تأخذني رواية خورشيد شوزي إلى ضرورة إفراد مساحة وقتية لفهم الطبائع الإنسانية وبلاشك أن الراوية القصيرة ستصبح متداولة أكثر على المدى القريب كونها تستجيب لعامل الوقت وكثرة الأعباء الملقية على عاتق الفرد المتلقي في ظل سعار المنظومة الإستهلاكية ونهشها لمفاصل حياتنا، حيث يقدم الكاتب مادة معرفية ، فنراه يخوض في بعض الأسماء الثقافية التي يضمنها على هيئة حوار ص56 : "كونراد ولد بالقرب من مدينة زوريخ السويسرية، ولكنه يعتبر في عداد الكتاب الألمان، عاش وفكر وكتب معتمداً الثقافة السويسرية الخليطة من الألمانية، الفرنسية والإيطالية ، كان شديد الإعجاب ببسماك ومن أبرز أعماله : "ثورة في الجبل" و " إغواء باسكارا ". "
الدرب الأول بدا حافلاً بالحب الإثارة ، الضحك ودقات القلب على وقع سيمفونية الحب ، تأكيداً على أنه من الضروري جداً أن يختار الكاتب بداية قوية مشوقة مفعمة بالإدهاش عندما يشرع في كتابة الرواية، أياً كان نوعها، شكلها ولاسيما عندما تكون الرواية قصيرة ، لا ينبغي أن يهدأ ذلك التشويق وإلا فإن القارئ سيغط في نوم عميق أو يقرر عدم إكمال الرواية، حيث تصلني كناقد العديد من الأعمال فاقدة الإثارة أو الفكرة من أصدقاء أو من أصدقائهم لأبين رأيي بها وأشعر بإحراج عندما يعود إلي الكاتب ليسألني فيما إن كنت قد قرأت كتابه أم لا وهذا يحدث في ظل وسط اجتماعي شرقي محفوف بالمجاملات، حيث انحياز المؤلف وشغفه الزائد بما يكتبه دون أن تسترعيه فكرة أن الآخرين لهم آرائهم وانطباعاتهم فعليه أن يستعد إذن لسماع تلك الآراء على تباينها ويأخذها في عين الاعتبار بمعزل عن محتواها ، وهنا يتباين كتّابنا في ردود أفعالهم تجاه نقد النقاد أو غير النقاد، فمن كاره للنقد ومحب للثناء ومن مدعٍ حبه للنقد والنقاد وممتعض من آراء لا تروقه، وهنا يجد الناقد صديق ذلك المؤلف، نفسه في موقف لا يحسد عليه، فإما أن يستمر في المواربة وخداع الكاتب كي تستمر صداقته به ولا تشوبها شائبة النقد، أو أن يصارحه بضرورة أن يقرأ أكثر أو يتأنى أي يعد للعشرة قبل التفكير بطباعة مخطوطه.
لنعد للرواية القصيرة من حيث كونها كما أسلفنا طرحاً عصرياً أكثر قرباً من متطلبات الحاضر، لقد أتقن الكاتب بناء السرد والحوار أكثر في القسم الأول من روايته أي الدرب الأول، راوياً بحذق وأناة تفاصيل نمو العلاقة الحميمة بين ليديا ومارك اللذين ذهبا معاً لإسبانيا في إجازة وعادا منها ببداية حب هادئ ومثير، أما الدرب الآخر فمغاير تماماً وتخلله استهلال لم يكن له من داعٍ فقد أضفى على الدرب الثاني نوعاً من الرتابة.
خلاصة: -
تجربة خورشيد شوزي هي الأولى في ميدان الرواية وقد تمكن من الإدهاش وتحقيق الرسالة المرجوة من عملية الكتابة، وفي هذا الفضاء الكتابي عبّر عن رغبة عميقة في الولوج للذوات بغية فهمها من خلال وضعه مقارنة جلية بين عوالم شرقية وغربية تلتقي في نهاية الرواية من خلال مشروع الإندماج والتعاطف مع الهاربين من شبح الحروب والأزمات في بلادهم.

الأحد، 2 يونيو 2024

ملامح الاغتراب في رواية وشمس أطلت على ديارنا الغريبة- للكاتبة يارا وهبي-ريبر هبون


ملامح الاغتراب في رواية "وشمس أطلت على ديارنا الغريبة" للكاتبة يارا وهبي
*ريبر هبون
بدأت الرواية هادرة في حزنها، تقيم حراكها الصاخب في الأعماق لأول وهلة تجول به عين القارئ بعد إطالة نظره في العنوان، حيث الاغتراب الذي يلف الشمس أول بزوغها لتصادف المتاعب والأهوال في ظل بلاد أقام فيها شبح الاستبداد واتكأ على كرسي البؤس فوق جماجم حلمت بالوثوب وانتفضت حتى وجدت نفسها في نهاية المطاف بهيئة تلك ص10 :" مشت ومشت دون أن تدرك أنها تدوس على الجثث، ثم هبت رياح قوية فرفعتها عالياً إلى السماء، فرأت الشاطئ والبحر وحتى السماء مملوءة بالجثث، جثث شكلت الخريطة وما الخريطة إلا سوريا."
تحول أهل الوطن الغريب إلى لاجئين وشرذمة متفرقة متعبة ومنهكة في البلد الجديد والكاتبة حولت روحها حبراً يستصرخ الكون الذي ألقى بها كرواية، فترويها ببطء الذي يتنفس بالكاد وقد خرج من غرق محتم، من خلال الرواية أمكن للقارئ الولوج لمعاناة الجماعة عبر بوصلة الفرد، والعلاقة بين الفرد والمجتمع توأمية تتسم بتعقدها ورحابتها بخاصة إذا لمسنا من الفرد المرهف ذلك الانفتاح الرحب على محيطه، طفولته ونشأته ، احتكاكه بالأخرين وتطوره العضوي والنفسي في ظل التنقلات والرواية تجعلنا نتعلم عندما تشعرنا بالألم عبر سماعنا لآلام الغير،حيث تنشغل الروائية يارا وهبي بالتفاصيل المتعلقة بنفسية الشخصيات وانطباعاتها والحنين الذي تشبعت به، كذلك صلة المهاجر الجديد بأبناء البلد الجديد الذي وفد إليه، تعرفه على تاريخهم ، حروبهم وقضاياهم، هذا الاندماج وضعه أمام عالم آخر رحل إليه هرباً بل تهرباً أحياناً من عالمه الموحش المقفر.
ما يؤرق الكاتبة هو مد الجسور بين الثقافات وتجارب الشعوب على مبدأ شعبي بسيط التعرف على مصائب الغير تجعل مصيبتك تهون في نظرك، ص 24 : " تركت جدتي المنزل وانطلقت عابرة الشارع إلى محل الألبان القديم، المحل الذي كافح زوجها للإبقاء عليه واضطر من أجل ذلك إلى إثبات آريته بكل الوسائل للمخابرات الألمانية قبل الحرب."
الاغتراب السوري يعبّر عن نفسه على هيئة مجتمعات منقسمة عانت الأمرين تحت ضغط تعاقب النظم الديكتاتورية القومية عليها فجعلت أفرادها، شرائحها ومكوناتها متباعدة متنافرة كالخرزات المتناثرة، لهذا تأخذنا الرواية إلى محطة من محطات ذلك الاغتراب الذي يلخص غربة الفرد داخل مجتمع مغترب نفسياً وجسدياً، من تجلياته رغبة أبو جابر بأسلمة توماس الألماني المتعاطف مع تلك العائلة السورية، ص58 : "فاللمرة الأولى قرر توماس أن يصوم رمضان مستأنساً بالمسلم الوحيد الذي يعرفه وقد خصص لهذا الرمضان الأول واجباً مقدساً وهو حفظ القرأن بين يديه، بينما يجلس توماس أمامه مغمضاً عينيه مردداً ما حفظ وفي كل مرة كان يحدث هذا كان توماس ينتظر أبا جابر كي يصحح له أخطائه في طريقة التلاوة أو تشكيل الحروف."
الإبنة تقول في سرها: " ليتنا مثل الألمان، يصادق الأب ابنته دون حرج أو عيب، كنت سأتجرأ على إخباره بما يسبب لي الحجاب من معاناة وألم."
هنا تنتقل يارا وهبي لموضوع الاندماج والتأثر بالمحيط الذي تحاول الإبنة أن تجاهر به لأبيها، الحالة التي تعتري ديالا الواقعة في غرام الشاب الألماني، أما أم جابر ص62 : " قررت أم جابر مغادرة المدينة الصغيرة بعد أن اعتادت ما يقدم لهم بالمجان، ولم تلفتها نظافة الطرق ولا انضباط الألمان."
تعاني الشخصيات من حالة الصراع الداخلي الذي يتجلى بشكل أو بآخر في الاحتكاك بالبعض أو الآخرين، ذلك التأثر والتأثير بات سجالاً عاماً إذ يتغير المجتمع الأصلي بوفود الآخرين على الهاربين من الحروب ومشاكل بلادهم الداخلية، ذلك جعل وسائل الإعلام الأوروبية وكذلك الساسة في حالة من تنافر أو انسجام بين من يرى الاندماج قوة للبلد أو خطراً على ثقافتها، حتى ذلك الوافد بات يخشى على أولاده ومحيطه الأسري من الضياع والانصهار والابتعاد عن الموروث الجمعي، مجتمع الحرب يعيش آثار القصف والدمار من خلال التفكك الأسري وتباعد الرجل والمرأة عن بعضيهما، ذلك التفكك قوبل بالمزيد من العنف والاحتقان، ناهيك عن ذلك التفكك السياسي وأزمات الاندماج التي يعانيها الوافد والمستقبل على حد سواء، تفصح الرواية عن تلك الأورام الاجتماعية وعدم التكيف والتأقلم بخاصة فئات كبار السن، الحوار في الرواية أخذ منحى درامياً عميقاً يغوص في النفسية التي تتم معالجتها من خلال جلسات طويلة يتخللها ذلك الحوار: ص107 : " بلى سنسرق لها ظلها كما سرقنا لك ظلك، فأجابه: لن تستطيع ، ظل حنين داكن وقوي."
إن عالم الرواية بالمجمل غائص في الدراما الإنسانية المشغولة بسبر الطبائع من وجهة نظر نفسية دون الدخول لأي حدث متعلق بالتشويق والإثارة وإنما بشخوص وفدوا إلى عالم مختلف وهم يعانون من تبعات الحرب الداخلية السورية وحالة الاحتراب والتنازع المزمنتين واللتين خلقتا شرخاً كبيراً من الصعب أن يلتئم، ص159 : "الشرق هو الشرق حروب ونزاع طوائف وديكتاتوريات."
-خلاصة:
رواية تخوض في الحياة من خلال نظرة اغترابية تتوسط السوداوية والأمل في حياة بديلة، إنها تلخص اغتراب كل مكونات بلد منكوب، انسلخ فيه إنسانه قسراً من منبته، حيث تنتقل يارا وهبي من اغتراب لآخر باحثة عن ذاتها الأساسية في خضم محيط مكتظ بالأحداث والأهوال والبؤس وسوء الطالع، لسان حالها حال كل الذين يحاولون جمع ما تكسر فيهم عنوة، هذا التكيف الذي ينشده الوافدون الجدد محفوف بالعثرات والمصاعب، وكلا الطرفين الوافد والمستقبل يتخوفان من عودة التنازع والقوموية اليمينية بمعناها الرافض للديمقراطية والحياة التشاركية.
إنها الرواية الأولى للكاتبة ولابد من تتمة لهذا الوجع الذي يلخص حال المجتمع المنقسم على نفسه والمتشظي في البلاد الجديدة، فأوروبا الحلم ليست كما ينشدها البعض على الواقع، حيث ذلك التغيير الديمغرافي خلق نمطاً جديداً من الحياة على وقع آثار الحروب والنزاعات المتفاقمة من بلد إلى بلد وهنا تقف الرواية بالمنتصف من كل شيء لتعاين تلك الحياة على طريقتها.

صدور كتاب نقد السياسة الكوردية غربي كوردستان أولاً للكاتب ريبر هبون

صدر عن دار تجمع المعرفيين الأحرار كتاب - نقد السياسة الكوردية  "غربي كوردستان أولاً" للكاتب الكوردستاني ريبر ه...