الاثنين، 25 نوفمبر 2024

طباعة كتاب- ريبر هبون- قصة

طباعة كتاب

أراد الدخول لعالم الطباعة والنشر ،ولأجل ذلك مقابل جشع دور النشر والمؤسسات ، لم يجد بداً من الدخول في تجربة معهم ،  سواء مع كتاب لهم باع وصيت ذائع أو مع كتاب يملكون دور نشر أيضاً،ولكونه ناقد ،ومولع بالتحليل والتأويل،وتجريب منهجه على أعمال أدبية موضوعة في رفوف المعارض فقد كتب عن روائي معروف كتاباً ،وراح بشق الأنفس يجهد في اخراجه بأحسن حال، كان الروائي يعد برنامجاً في احدى القنوات  الرسمية، ومنها كانت مناسبة للقاء والتعارف، حيث قام الروائي سليم يونس باستضافته ،وتحدثا حينها عما يدور في أروقة الأدب وتجربة الكتابة، طاب لهما فيما بعد أن يستمرا في التواصل ،فاقترح عليه بينما كان في السيارة  أثناء عودته معه من الاستديو ، أن يعد
. كتاباً نقدياً عن أعماله المنشورة ككل  
. مابك تطيل الصمت، لنتحدث في موضوع أو شيء ما-
صديقي بما أنك على صلة جيدة بدور النشر -
وخلافا لغيرك من كتَاب مغمورين أو مبتدأين شباب مثلي فإن لديك ناشر 
 وبدل من ان تدفع نفقة الطباعة لكتبك هم من يدفعون لك ،فإني بدوري سأكتب عن رواياتك بود وسرور، ومقابل ذلك يطبع الكتاب وترسل إلي بضع نسخ عنها
. فيما بعد 
 لا تقلق صديقي، اكتب  وموضوع دار النشر هين،سيسعدني ويشرفني ماستقوم به لأجلي
كانت لدي تجربة سيئة مع أحد الكتّاب ممن أنجزت عملاً نقدياً- 
عن أعمالهم الأدبية وكان روائياً وصاحب دار نشر يدعى حمود أبو لهب، فكان الاتفاق أن سأجهز الكتاب مقابل طباعته وارسال نسخ إلي ،فقال بأن ذلك من دواعي سروره ، وسيقوم بنشر الكتاب وتبنيه، عندئذ هممت بالكتابة وأنجزت الكتاب في غضون سنة، بعد ذلك أخذ يطالبني بمبلغ من
. المال لقاء طباعة الكتاب، ومن حينها أهمل العمل كلياً 
 اسمح لي أن أقول أنه شخص بلا ذوق،بالنسبة لي فأنا لن أفعل ذلك
. معك فلست هو 
شعر رشيد بالغبطة ،بعد أن سمع ما قاله ، وبعد أيام التقى به مجدداً فقام باعطاءه نسخة عن كل رواية له ،وشرع بالاعداد لخطة يباشر فيها عمله، الواقع المريض الذي عاناه رشيد جعله يصطدم بالعوائق الجمة ،فليس سهلاً أن يحظى الناقد الشاب بفرص تجعل نتاجه ذائعاً، أو بوجود دور نشر تهتم بنشر الأدب، فهدف غالبها الربح، ،فلابد من معارف وأصدقاء ،بغياب مؤسسات ثقافية تدعم الإبداع والمبدعين فالشهرة مرتبطة بالتسول على باب الأحزاب والتطبيل لها أو الارتزاق المباشر لحصد الجوائز ونيل الاهتمام، عدا ذلك فمصير المبدع إن كان حياً أو ميتاً هو التهميش، فقد حدث أن مات من كان لهم أثر عميق على صعيد الأدب والفن، ولم تكلف جهة رسمية أو اعلامية في إذاعة حتى خبر وفاته،ولا حتى المشي في جنازته، إن عداء المؤسسة الحاكمة للمبدع الحصيف لا حدود له، وكذلك فإن مزاحمة المبدع السلطوي لوجود المبدع المحايد أيضاً لا ينتهي، فالواقع الكوردي لسان حاله الكراهية والتهميش المتبادل ،وأمام هذا الواقع بدا صعباً لرشيد أن يمارس البغاء الفكري والتملق الذي يبديه بعض زملاءه في
. مهاجمة طيف سياسي والدفاع عن آخر
تساءل في نفسه،كيف يجتمع الدفاع عن الحب  والشرف والفضيلة أدبياً والتشبث بالمال والنرجسية المفرطة سلوكاً، ليصبح الانتفاع بمثابة الوجه
: الدميم عن قناع رواية  يتم ارتداءه ،إلا أنه تبسم قائلاً في نفسه
تغيير العالم لا يتم بقلم ،انه يحتاج لألم ما بعده ألم ،فقد يكتب المرء-
 عن أشياء تنقصه 
كي يكتمل بها أوَليست الكتابة تعبيراً لاذعاً عن عقدة النقص
.ثم تابع في نفسه: "ننشد عالماً مثالياً ونعتقد حقاً أننا مثاليين "
في سيل من الأحاديث ،ظل يكتب، يقرأ الرواية ،يشرحها كجرّاح ،يفرم أحداثها كقصاب، يفصّلها،يخيطها كخياط، وينثر رذاذ خشبها كنجار وهكذا ،راح بنقده وتحليله كمن يصبغ الثياب ،أراد كتابة شيء يبقى من بعده زماناً طويلاً،ان النقد في كثير من الأحيان يصبح إعادة تدوير الأشياء المستعملة أو حتى تكرير المياه،لم يأبه لشيء ،ولم يفكر وهو في صحبته لشخوص روايات الروائي الأنيق إلا باستنشاق البياض العالق في روحه بعيداً عن أدران النفس الإنسانية وتشوهاتها، تمر شهور وسنوات أربع كقطار ، أخيراً تم انجاز العمل تنفس الصعداء ببطء متعمد، حدّثه عن
: إنهاءه للعمل ،أجاب
عظيم صديقي،أشكرك على هذا الجهد الجبار، سيقوم مروان-
 بتدقيق الكتاب، وسيحدثك ان كان ثمة من ملاحظات حوله ،أود أن تكتب
. نبذة عن الكتاب وانطباع عن تجربتك النقدية في قراءة رواياتي.
لا بأس سأفعل-
:بعد فترة وجيزة حدثه مجدداً فأخبره
 مروان يقول أن ثمة تفاصيل مكررة واستطرادات ،سيتم حذفها، سيكون من
. الجيد فعل ذلك
انه مدقق لغوي فما شأنه بمحتوى ما كتبته -
لا يا عزيزي، التدقيق ليس فقط ما يتم بخصوص اللغة- 
.والهفوات الإملائية
تعني إن التدقيق أيضاً حذف ،وتحوير للعبارات ؟-
. على كل سيتحدث معك أو تحدث إليه أنت -
.سأفعل.-
مروان شاعر ومدقق لغوي وله تجربة في ترجمة  روايات سليم يونس  ،يتعاقد مع دور نشر عادة بغية تدقيق أو ترجمة كتاب لقاء مبلغ مادي ، أرسل إلى رشيد نسخة الكترونية عبر الواتس آب عن كتابه النقدي
: وكتب اليه 
أستاذ رشيد مرحبا هذا هو كتابك بعد تدقيقه وتنسيقه -
قمت بعد جهد في تدقيقه واخراجه بهذه الصورة يرجى الاطلاع العام عليه
. ومن ثم سنتحدث ،كن بخير.
رشيد يرى الرسالة من ثم يفتح الملف ويقوم بالاطلاع عليه والمقارنة فيما بينها والمخطوط الاصلي لديه ،الملف المرسل ١٥٠صفحة بينما المخطوط الاصلي  ٣٦٥ صفحة ،تم حذف أكثر من نصف الكتاب وتحوير بعض
: العبارات، قال في نفسه
لم يبق سوى أن يحذف اسمي ويضع اسمه  هل التدقيق يعني- 
مشاركة المؤلف فيما يكتبه؟
:بعدها اتصل به،مستفسراً عن ذلك فأجاب مروان
ان الكتاب على درجة بالغة من الأهمية ، ودار النشر لدينا لا تنشر-
 الكتب ذات الحجم الكبير فما كان مني إلا وأن قمت باختصار الكتاب ليكون خفيفاً رشيقاً مقتضباً، هذا شرط رئيسي لنشر الكتاب ، ثم ان كتابك يا صديقي فيه تنديد للتطرف الديني وأنت تعلم اننا ما نزال محاطين ومحاصرين بخلاياهم النائمة ،بيد أني أبقيت على روحك في النص ولم أخفيها ، فقط قمت باجراء بضع تعديلات كي يتم اخراج هذا العمل فهو هام للغاية وأحييك على هذا الجهد
لم يجد رشيد بداً بعد انجازه للكتاب إلا والقبول بذلك أو الرفض، حينذاك
: سيكون أيضاً لذلك تبعات نفسية عليه فكتب للروائي 
تحياتي لك لابأس بإمكانك عرض الكتاب على دار النشر والمباشرة-
 في الطباعة
أشكرك جداً على سعة صدرك ،وكن متيقناً ،الكتاب هكذا برأيي-
. أفضل ،رشيق مقتضب وتم اخراجه بشكل  جميل
ًحسنا -
بقي اخراج الغلاف، سأرسل لك في المساء صورتين عن الغلاف قمت
. بتصميمهما  لتختار الأفضل
أرسل سليم  غلاف الكتاب للناقد الشاب صورة الروائي تغطي كامل الغلاف حيث باتت أشبه بتمثال القائد الخالد،وأخرى لوحة جميلة سريالية لامرأة
. واقفة على عتبة ممر فاصل ما بين الأرض المعشبة والجرداء
:كتب له
 أنا اختار اللوحة الفنية تلك عن الأخرى المتضمنة غلاف صورتك-
 فالأخيرة تصلح لتكون غلافاً لأعمالك الكاملة  أكثر من كتاب النقدي
:أجاب سليم يونس 
 إلا أني أرى في ذلك العكس فصورتي وفق رأي الكثير من-
. الاصدقاء مناسبة أكثر 
.بعد برهة أجابه رشيد : ان كنت ترى ذلك مناسباً فالأمر لدي سيان
 مضت الأيام بتسارع ، ولم تطل مدة المكوث في رواق الانتظار كثيراً ، ضياء الدين القريشي صاحب  دار نشر ، يعد صديقاً حديثاً للروائي سليم يونس، حينما قرأ المخطوط ، أعجب به ، وسارع لإعلامه  
 العمل النقدي عن رواياتك أراه أهم من رواياتك نفسها، لهذا وبكل سرور
. سأقوم  بنشرها 
ذلك ما أبتغيه حقاً -
 دار النشر التي أترأس أحد فروعها تتبنى الأعمال الهامة، -
وكوني أعمل على إعادة طباعة رواياتك وقصصك ، فالعمل النقدي امتداد لها،لمجرد أن تصل تلك النسخ ، سأقوم بإرسال 200 نسخة إليك والباقية
.  ستكون لي وسأقوم بترويجها وهكذا
 بعدها كتب سليم لرشيد مبلغاً إياه بأمور استجدت حديثاً ،تبسم رشيد، بخاصة كون الكتاب هو الأول نقدياً بالنسبة له، على الرغم من الغصة التي ما بارحت حلقه، بسبب الاقتضاب في الكتاب والتحوير إلا أنه استبشر  خيراً ، قال  لنفسه : لينجز هذا الكتاب فقد طال الحديث حوله 
 رشيد لقد تبنى رئيس الدار مشروع كتابك، وقال أن الكتاب طالما هو عن
. أعمالك فسأنشره بكل سرور 
 ، وان أردت المزيد بإمكانك شراؤها. لقد اشتريت مئتين نسخة منه، أعطاني إياها بألف يورو،  من الجيد أنه قام بنشرها دون مقابل مادي لهذا سأعطيك من بين النسخ التي اشتريتها منه خمسة نسخ، كهدية إن أردت المزيد فيمكنك شراؤها مني
.لا صديقي لا أريد المزيد أشكرك على النسخ الخمس ، -
هنا تذكر صديقه الروائي السابق صاحب دار النشر، حين طالبه بثمن تكلفة الكتاب النقدي الذي أنجزه رشيد عن أعماله، وقد زعم الأخير أنه سيكون مختلفاً عنه، فتبسم متساءلاً في نفسه، ما أدراني أنك اشتريت منه، أو كانت هذه 200 نسخة هي نسبة عن الكتاب المنشور،ثم  انك لم تنفق إزاء رواياتك أي مبلغ وإنما كنت أنت من تقول أن  الدار تعطيك نسبة عن كل رواية يتم نشرها أو يتم إعطاؤك مقابل مادي كنسبة عن الكتاب الذي تقوم دار النشر ببيعها
شعر وقتها بغثيان روحي ،واشمئزاز من الكتابة والكتاب وكل ما يدور في فلكهما، إذ كلما أراد الاستفراغ، شعر بشيء يحول دون ذلك، أحس برغبته في التقيؤ على التفاهة التي تحيط بهذا العالم ، بهذه النفس الإنسانية 
وتناقضاتها المحيرة  حيث تتبول الماديات فيه على الجماليات وتنتصر في النهاية، أحس بمخاط أخضر يسيل من انفه  دون توقف كان ذاك مناماً بعد أن استعصت جفونه على الإغلاق لشدة التفكير بما حدث، لم يفلح في إيقافه بأصابعه بالمناديل الورقية  فراح المخاط يخرج كخيوط دودة القز من فوهتي إنفه ليستمر في الدوران الدائري حول صورة الغلاف الأمامي
.  للكتاب مغطية بشحوبها الفاقع  فظاظة التمثال المتجلي 
ريبر هبون - من كتاب اعترافات ثملة - 2023 قصص قصيرة - دار رقمنة الكتاب العربي - السويد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

طباعة كتاب- ريبر هبون- قصة

طباعة كتاب أراد الدخول لعالم الطباعة والنشر ،ولأجل ذلك مقابل جشع دور النشر والمؤسسات ، لم يجد بداً من الدخول في تجربة معهم ،  سو...